استمرار الوجود الإسلاميّ في أندلس القرن الواحد والعشرين
”أنتمي واتشرّف برئاسة تجمّع اسلاميّ ذو إقامة خاصة في الأندلس“
الكاتب: الشيخ منصور عبد السلام اسكوديرو - مصدر: ويب اسلام
عندما نبحث عن الاعتراف بوجود بصمة اسلاميّة للأندلس، فيما يشكّل اليوم الواقع الجيوسياسيّ لاسبانيا، سنرى بانّ هذا يتجلّى بمستويات مختلفة، من عمارتنا الشعبيّة، عاداتنا، مواقفنا، الفلسفة الشعبية أو الكلام المحليّ. المؤكّد، بأنّ العالم الإسلاميّ الأندلسي لم يختفِ أبداً من الوعي الاندلسيّ الجمعيّ، وقد كان سبباً بتوليد عوامل وجدانيّة، فكريّة ودينيّة. يكون المثال الأهم على ما تقدّم هو سهولة اقتراب الأندلس من الإسلام، عبر السعي لاكتشاف الجذور، العودة إلى طفولة مُفتقدة، قد كانت هناك دوماً وتتمظهر بشكل واضح عند السعي للاستعلام عن أصلها الإسلامي.
أوّد بداية شُكر صديقنا العزيز، أستاذ القانون المدني بكليّة الحقوق في جامعة قرطبة، انطونيو مانويل رودريغيث، الذي وجّه الدعوة لنا إلى هذا المنتدى، لعرض موضوع استمرار الوجود الاسلاميّ في اندلس القرن 21. أيضا ارغب بشكر منظمة اليونيسكو لحلّ النزاعات وغيرها من المنظمات الراعية لهذا اللقاء.
أنتمي واتشرّف برئاسة تجمّع اسلاميّ ذو إقامة خاصة في الأندلس، المجلس الاسلاميّ، والذي منذ نشأته بأوائل ثمانينات القرن الماضي: يعمل على استعادة ونشر الرابطة الروحية الإسلامية، بالتعاون مع تجمعات اسلاميّة أخرى مولودة هنا أيضا، وهذا بفضل المظلّة القانونيّة التي يوفرها لنا دستور العام 1978 تحت بند: الحريّة الدينيّة.
في العام 1992، وإثر مضيّ 5 قرون على سقوط آخر مملكة إسلامية اسبانيّة، غرناطة، على ايدي الملوك الكاثوليك: كان لي شرف التوقيع كسكرتير عام اللجنة الإسلامية في اسبانيا، على الاتفاق التاريخيّ للتعاون بين الدولة الاسبانيّة والمسلمين الاسبان، الأمر الذي وضع نهاية وضع غير عادل مارسته الدولة تجاه المسلمين الاسبان، حيث لم تعترف بحقنا في ممارسة شعائر إيماننا بحريّة، وذلك تطبيقا لقانون اعترف بالكاثوليكية كدين وحيد للاسبان.
في هذا الاتفاق الهام، الذي تمّت الموافقة عليه بالإجماع في البرلمان الاسبانيّ وصدّقه الملك خوان كارلوس، وقد تمّ فيه: الاعتراف بأصالة علمانيّة الدين الإسلامي في اسبانيا، إضافة إلى دوره البارز في تكوين الهويّة الاسبانيّة.
هذا الاعتراف المُضاعف، سواء بجذره العلمانيّ كما بأهميته البارزة في تكوين الهويّة الاسبانيّة: يكون أساسي بالنسبة لنا كمسلمين واسبان، بقدر ما يكون الاعتراف بالإسلام كسمة خاصة بالشخصيّة الاسبانيّة الغنيّة هاماً، فإنه مهم أيضا على صعيد تكذيب الراغبين ببتر ذاكرتنا التاريخيّة، محاولين جعلنا نعتقد بالعكس من هذا.
من المهم لحضراتكم أخذ العلم، انه بيومنا هذا، يوجد في الأندلس 80 جمعية اسلاميّة وحوالي 250000 مسلم. يوجد بين تلك الجمعيات، العديد الذي شكّله أغلبية من المعتنقين الجُدد الأندلسيين متحولين للإسلام من أديان أخرى والذين وجدوا في الإسلام طريق روحيّ إضافة لكونه علامة هويّة ثقافيّة وطريقة حياة لهويتهم الأندلسية.
يكون مثيراً للحماس موقف حبيبنا الأستاذ علي الكتّاني، الغائب بالجسد، المغربي ذو الأصل الأندلسي، الاسباني المغربي المُعاصر والمؤسّس للجماعة الإسلامية في الأندلس / رابطة اسبانية مغربية، جمعية قد تمكنت من فتح كليّة اسلاميّة في قرطبة وخلال عدّة سنوات، على الرغم من عدم تحقيق الازدهار إثر وفاته بثلاث أعوام.
قال السيد على الكتاني في العام 1996، وخلال مقابلة مع مجلة الإسلام الأخضر، التالي:
" أرى القومية الأندلسية بوصفها خبرة ثقافيّة تاريخيّة مُشتركة، بداية كخبرة اسلاميّة، تالياً محاكم التفتيش، حرق، تهديم، وبالنهاية عبودية ورقّ لناس مطرودة من أراضيها. هذا سبب من الأسباب لضعف القومية الأندلسية بيومنا هذا. لا يستطيع السياسيون تقديم تفسير على ما تقوم فعلياً تلك القومية الأندلسية. الشخص الذي تمكّن من تقديم تفسير لهذا الواقع كان بلاس انفانت، لكن لم يتبع السياسيين المعاصرين كل ما طرحه بلاس انفانت، بل اتبعوه فقط بمستوى مطالب سياسيّة لا ثقافيّة والتي هي الأهم، حيث انها تُجيب عن أسئلة، من قبيل: من هو الشعب الأندلسي؟ من نكون نحن الأندلسيين؟ بالنسبة لي، يشكّل الشعب الأندلسي كل المواطنين المسلمين التابعين للدولة الاسبانية. يكون المسلم في كاتالونيا أندلسيا وفق المعنى الإسلامي، إذا لا يوجد حواجز في الأمّة. أيّ مغربيّ يصل إلى هنا ويندمج، هو أندلسي بالرغبة ".
لقد تكلّم على كتاني عمّا اسماه " الإسلام المُتبقّي " بإشارة منه لذلك الوجود، المسلكيات، الطرق لتكون من الاندلس والتي تحددت مع قيم ومشاعر إسلامية تميزنا عن مجتمعات أوروبية أخرى.
عندما نبحث عن البصمة الإسلامية في الأندلس، الموافق اليوم لمنطقة جيوسياسيّة في اسبانيا، نراها بتعبيرات عديدة شديدة الاختلاف. حيث يمكننا العثور على تلك البصمة في هندسة عمارتنا الشعبية، وعلى وجه الخصوص، في المناطق الريفية، والموجودة بالغالب على شكل مُنطمر تحت المزارع الحالية القائمة، كما في حالة بقايا 90 قرية والتي كانت خلال حقبة الاندلس، وفق السجلات الإسلامية، تقع بإطار ما اصطلح على تسميته بالعربية: إقليم المدوّر.
يكون أيضا من شواهد الوجود الأندلسي: طريقة تصوّر المسكن الشعبيّ التقليدي، ذو النوافذ الصغيرة والجدران السميكة الطينيّة أو المغطاة بالكلس، أو ترطيب الفسُحات الأرضية، المساميّة والقابلة للنفاذ للرطوبة، أو الطيب الآتي من روائح الياسمين ومن نباتات عطريّة، نضارة النباتات وصوت المياه المترقرقة وسط الجوّ الحار.
كذلك تبدو البصمة الإسلامية الأندلسية في العادات والمواقف. لذكر بعضها، نذكّر بعادة بعض العائلات بالسهر على موتاهم المُسجُّون على الأرض، عوضاً عن وضعهم بالتابوت. أو الطريقة الهادئة والساكنة بمواجهة الحياة التي امتلكها وما يزال بعض كبار السنّ عندنا. القدرة على القبول، الآلام والصبر، أو الطريقة بمواجهة التحولات الوجوديّة وتغيرات الواقع: تشكّل في الحقيقة علامات فارقة للذات أو للهوية الإسلامية.
كل هذا، يشكّل جزء من وجودنا، وكان مُعاش ومنعكس على نطاق واسع وجماليّ في زمن الأندلس.
وضمن إطار آخر، تمتلئ الفلسفة الشعبية والكلام المحليّ بأصوات هجائيّة عربيّة. فمُصطلح " الشخص الكامل " يكون إسلاميا بامتياز، كذلك صيغ المُزارعة القديمة الصيغ القديمة لعقود استثمار الأراضي، بالنصف أو بشروط محددة .
بذات المقابلة التي أشرنا لها آنفاً، ذكر لنا الأستاذ علي كتاني كيف حاولت بلدات الاندلس الإبقاء على وعيها حيّاً بكونها منحدرة من المغاربة الاسبان moriscos ، على سبيل المثال، كاسا رابونيللا في قضاء مالاغا، أو كاسايا دي لا سييرا في قضاء اشبيلية، حيث بالإضافة للشعور بوصفهم مغاربة اسبان، فإنهم يحتفلون منذ العام 1990، بناء على قرار من البلدية: بولادة النبي محمد بوصفه احتفال للبلدة. ففي أكثر من مناسبة، اجتمع مغني الفلامنكو والمُنشدين المغاربة للدعاء والثناء على خاتم الأنبياء محمد.
لقد حافظنا كمسلمين أندلسيين على روابط أخوّة وثيقة مع المسلمين ذوي الأصول الأندلسية، خصوصا من المغرب، حيث القرب الجغرافي والتماس الشخصي، ولقد حققنا مبادرات مشتركة لأجل إعادة إحياء تلك الروابط التاريخية والروحيّة.
منذ 4 أعوام، وبذكرى مرور 500 عام على أول مرسوم طرد لمسلمي الاندلس، المعمول من قبل الملوك الكاثوليك بتاريخ 14 فبراير شباط 1502، وفي ذات يوم 14 من الشهر ذاته عام 2002: عقدنا لقاء تاريخيّ في مدينة شفشاون المغرب بين مسلمين من اصل أندلسي بقصد إيصال رسالة إلى المجتمع الاسبانيّ حول إعادة لمّ الشمل والاعتراف بوجودهم الذي ما يزال حيّ في المجتمع المغربي. في ذكرى هذا الحدث المأساوي، الذي كان بمثابة مجزرة أو طرد آلاف الاسبان المسلمين من منازلهم، والمُحتفظين للآن بألقاب عائلاتهم الاسبانيّة، كما يحتفظون بمفاتيح بيوتهم وأسماء أملاكهم، فالمؤرخ التطواني محمد ابن عزوز حكيم: ينحدر من عائلة أندلسية من آلميريا، والذي قام بتوجيه أول رسالة مفتوحة لملك اسبانيا خوان كارلوس، نيابة عن الدولة الاسبانية: طالبا منه القيام بالتعويض المعنوي عن الخطأ المُرتكب بحق أسلافه، ليس فقط في العام 1502، بل في أعوام تالية حتى الفترة الممتدة بين العام 1609 والعام 1610 والتي جرى فيها آخر مراسيم الطرد للمغاربة الاسبان الموريسكيين.
كذلك وبذات الرسالة المفتوحة، اعتبر الأستاذ ابن عزوز بأنه كان من العدل بمكان: القيام بإلغاء كل مراسيم الطرد تلك، والاعتراف على الملأ بأخطاء قديمة مُرتكبة. يذكر الأستاذ ابن عزوز في رسالته: بأنّ ملك اسبانيا قد قام بهذه الخطوة تجاه اليهود السفارديم، حين ألغى مرسوم الطرد الصادر العام 1492 وقدّم الاعتذارات إلى رئيس إسرائيل كممثل لليهود المطرودين.
لم يحصل ردّ على تلك الرسالة، وفي العام 2005 أرسل الأستاذ ابن عزوز حكيم رسالة مفتوحة ثانية الى الملك خوان كارلوس، عند زيارته إلى المغرب، والتي ندّد فيها حرفياً بسلوك الحكومة الاسبانية المتمثل بسنّ قانون خاص بالأجانب في العام 1985 تمّ إعطاء أفضلية فيه لليهود السفارديم بالتساوي مع البرتغاليين، سكان جبل طارق وآندوررا، ايبيرو اميركيين غينيين وحتى فليبنيين، لكنّه لم يذكر المسلمين الأندلسيين، وهذا نعتبره أمر غير عادل، فنحن لسنا اسبان أقلّ من اليهود السفارديم. نحن نحتفظ بثقافتنا المحليّة الموروثة من أسلافنا اللذين كانوا اسبان مئة بالمئة، بالتالي، نحن المتحدرين منهم: لدينا الحق باستعادة هويتنا التاريخيّة في دولة سيادة القانون اسبانيا، حيث نرغب، على الأقل، بنوال ذات المعاملة التفضيلية لليهود في قانون الهجرة الجديد ".
لم تُعطِ جهود الأستاذ ابن عزوز حكيم ثمارها، وتتابع للآن قضية الاعتراف بالمسلمين الأندلسيين بكونها: قضيّة مفتوحة. لقد استحضرت هذه القضيّة اليوم هنا، لأنها تبدو لي قضيّة هامة لأخذ العلم بها والنقاش حولها.
لم يختفِ العالم الإسلاميّ الأندلسي من الوعي الأندلسي الجمعيّ، ولقد كان ويبقى مولّداً لمؤثرات عاطفية، فكرية ودينية. يكون أفضل مؤشّر لهذا ربما السهولة التي نراها باقتراب الأندلس من الإسلام، بالسعي لاكتشاف الجذور، العودة إلى طفولة مُفتقدة قد كانت هناك دوماً، والتي تبدو بجلاء عبر التحرّي عن الأصل الإسلامي. لسبب ما، نلاحظ بأنّ الأندلس كمجتمع اسباني: يشتمل على العدد الأكبر من المتحولين إلى الإسلام، بحركة بطيئة لكنها مستمرّة أو دائمة.
انطلق من الاندلس شعاع تفكير إسلاميّ جديد نضر، شعاع يمتلك جسوراً مع أميركا اللاتينية واوربا. تُعتبر الاندلس واحدة من أهم البؤر الفكريّة والمعلوماتية الإسلامية في العالم الناطق بالاسبانية. أُشير هنا إلى موقع ويب إسلام، موقع على شبكة الانترنيت، يتربّع على عرش المعلومة النوعيّة، يزوره حوالي 13 مليون شخص شهرياً. كذلك يحضرنا هنا واحدة من أهم المؤسسات المرخّصة للتغذية الإسلامية: إنها مؤسسة حلال.
لم يكن من قبيل الصدفة، أنّ اشبيلية قامت بتنظيم اللقاء الأول للمسلمين الناطقين بالاسبانية، في ابريل نيسان العام 2003، حيث حضر فيه أكثر من 150 ممثل مسلم من: أميركا اللاتينية، الولايات المتحدة الأميركية والمغرب. والذي أفضى إلى ظهور مشروع المؤتمر الإسلامي الاسباني أميركي. وجدير بالذكر أيضا حصول لقاء احتفاليّ خلال شهر مايو أيّار المُنصرم، في مدينة تمبكتو بدولة مالي: حيث اجتمع مسلمين أندلسيين ولاتينو اميركيين، قرّروا إعطاء بُنية ومضمون لهذا المؤتمر.
خلال اللقاء الأول للمسلمين الناطقين بالاسبانية، أوضح زميلنا الأستاذ مهدي فلوريس عضو اللجنة الإسلامية والمجلس الاسلاميّ في اسبانيا: السبب الكامن وراء تشجيع الكثير من المسلمين على التكلُّم بالاسبانيّة:
" نعترف كأعضاء جماعة، قد أعطت العالم واحدة من أجمل حضاراته، التي لم يعرفها إنسان في السابق: إنها الحضارة الأندلسية. حضارة، بأضوائها وظلالها، بلغت مستويات إنسانية ما تزال صالحة لتعطينا المثل عند بحثنا لنماذج العيش والتعايش. اعترفنا عبر هذا المؤتمر كورثة لهذه الحضارة التي لم تمت أبداً، منفذّي وصايا رابطة حيّة تقتضي منّا الأفضل للحفاظ على مستوى هذا التراث الراقي، دون ان نتحول إلى مقلدين، بل أن نكون: مُبدعين، فنانين، حرفيين صانعين لفضاءات جديدة تمدّ حدود الماضي، وتسمح بازدهار بذور الحاضر، والتي بسبب جفاف تاريخيّ، لم تُعطِ الثمار للآن ".
مهدي فلوريس، أحد أهم المشجعين للمشروع المغربي الاسباني الموريسكي المُعاصر، مُدافع عن وجود جماعة منحدرة روحياً من الإسلام الأندلسي وقد تشكّلت كجماعة روحيّة تتمتع بحساسيّة خاصة، تقوم على خبرة عميقة للإسلام، توفّر " ذوقاً " متميزاً، " ذوقاً " يشكّل رضى تفسيريّ للقرآن: هو رضى قلوب، وتوافق روحيّ للعيش والتعايش في المجتمع.
هذا الذوق الأندلسي، الذي يُعطينا المعيار لعيش القرآن الكريم وسُنّة الرسول عليه السلام، ويفتح لنا بوابة مجتمع القديسين والقديسات الذي ازدهر في الأندلس والمغرب الأقصى منذ الأزل وحتى اليوم. وهذا الذوق لا يكون شيء مُختلف عن أحد أسماء الله الحُسنى الأكثر جمالاً: هو اسم الجميل.
" إنّ الله جميل، ويحبّ الجمال ". كما قال النبيّ محمد عليه السلام. وهذا الذوق عبر الجمال، يكون أحد أهم الهدايا من الإسلام الأندلسي: جمال يتبدّى في: هندسة العمارة، في التمدين، في الأشياء، فنّ تحضير الأكل الغنيّ والصحيّ، الغذاء الحلال، الكمال البشريّ، حُسن الخُلُق، جودة السلوك، التناغم الاجتماعي، علم البيئة، العلوم، يكون الأفضل بالروح البشريّة، إنه باختصار وبكلمة واحدة: الإسلام.
آمل أن لا أكون قد تجاوزت الوقت المخصص لمداخلتي، وأنها أفادتكم، وأنّ الأمثلة المُشار لها ربما تعطينا أفكار أولية لبدء النقاش حول كيفية استمرار الوجود الإسلاميّ في أرضنا حتى يومنا هذا.
انتهى
ملاحظة: قام المترجم بترجمة كلمة sensibilidad : بكلمة " وجود " بدل " حساسيّة " لانه افترض ان الترجمة الحرفيّة هنا غير مناسبة للنصّ ..